تطرق فضيلة الشيخ عبد الحميد إمام وخطيب أهل السنة، في خطبة هذه الجمعة بعد تلاوة قول الله تعالى “إِنَّ اللّهَ اشْتَرَى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنفُسَهُمْ وَأَمْوَالَهُم بِأَنَّ لَهُمُ الجَنَّةَ يُقَاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللّهِ فَيَقْتُلُونَ وَيُقْتَلُونَ وَعْدًا عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْرَاةِ وَالإِنجِيلِ وَالْقُرْآنِ وَمَنْ أَوْفَى بِعَهْدِهِ مِنَ اللّهِ فَاسْتَبْشِرُواْ بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بَايَعْتُم بِهِ وَذَلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ*التَّائِبُونَ الْعَابِدُونَ الْحَامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدونَ الآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَالنَّاهُونَ عَنِ الْمُنكَرِ وَالْحَافِظُونَ لِحُدُودِ اللّهِ وَبَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ”، إلى أهمية التضحية بالمال والنفس في سبيل الله تعالى، معتبرا إياها من خصائص المؤمنين الصادقين.
وقال فضيلة الشيخ عبد الحميد: الآيات التي تليت، هي من سورة توبة المباركة التي بيّن الله تعالى فيها فضائل الجهاد في سبيل الله. الظروف في بداية الإسلام كانت تقتضي للحفاظ على الدين وسيد المرسلين التضحية بالمال والنفس. يقول المفسرون في توضيح هذه الآية أنها نزلت في بيعة العقبة، حيث جاء إلى رسول الله ستة من أهل المدينة ودعاهم الرسول إلى الإسلام، وقبلوا هذه الدعوة، وفي البيعة الثانية حضر اثنا عشر شخصا، واعتنق الجميع الإسلام، ثم أرسلهم الرسول صلى الله عليه وسلم كنواب ودعاة إلى أهل المدينة. بعد مدة عندما انتشر الإسلام في المدينة، طالب أهل المدينة من الرسول صلى الله عليه وسلم أن يرسل إليهم مقرئا يعلمهم القرآن الكريم، فبعث الله تعالى عددا من القراء إلى المدينة المنورة، فيهم مصعب بن عمير.
وأضاف فضيلة الشيخ: وحدثت في المدينة المنورة ثورة إسلامية وانتشرت الدعوة الإسلامية بين أهل المدينة، بحيث بعد سنة حضر قرابة سبعين شخصا من أهل المدينة للبيعة مع رسول الله في العقبة. وقال مسلموا المدينة للرسول صلى الله عليه وسلم أنكم في محنة ومشقة في مكة، ويعاني صحابتك المشاق والمصائب، وقد هاجر عدد منهم إلى الحبشة، فاختر يثرب دارالهجرة، ونحن كما ندافع عن أنفسنا وأموالنا، كذلك ندافع عنكم بالقوة. وعندما سأل أهل المدينة الرسول ماذا يعطينا الله بدل هذا الدفاع عن الدين والرسول، قال الرسول صلى الله عليه وسلم: إن الله تعالى يعطيكم الجنة.
وتابع فضيلته قائلا: يقول الله تعالى في هذه الآية: “إن الله اشترى من المؤمنين أنفسهم وأموالهم بأن لهم الجنة”، أي يعطيهم الجنة. ثم يقول: “فاستبشروا ببيعكم الذي بايعتم به”، أي كونوا فرحين ومسرورين بهذه التجارة، واشتريتم في المقابل الجنة الخالدة الأبدية.
وأضاف فضيلته: الصحابة رضي الله عنهم كانوا في الحقيقة من المشترين الصادقين لمرضاة الله تعالى، وعقدوا بيعا مع الله واشتروا مرضاته. “ومن الناس من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله”. فما أسعد من يشري نفسه ابتغاء مرضات الله. الجهاد في سبيل الله أيضا يكون بالمال والنفس. صحابة رسول الله هاجروا إلى المدينة المنورة وضحّوا بأموالهم وأنفسهم. المؤمنون الصادقون يضحّون بأموالهم وأنفسهم في سبيل الله للوصول إلى مرضاة الله تعالى. خريجوا مدرسة النبي صلى الله عليه وسلم ربحوا هذه التجارة النافعة، واشتروا مرضاة الله والجنة.
واستطرد خطيب أهل السنة قائلا: ثم يبين الله تعالى صفات الذين قاموا بهذه التجارة النافعة ويقول “التائبون” أي إنهم أناس يتوبون دائما. “العابدون” الذين يكثرون من عبادة الله. كان الصحابة من أكثر الناس عبادة لله تعالى. يقول الله عنهم: “تراهم ركعا سجدا يبتغون فضلا من الله ورضوانا”. ثم يقول الله في وصف هؤلاء العباد: “الحامدون”، أي يكثرون من مدح الله وعظمته. “السائحون” أي من خصائصهم أنهم يكثرون من الصوم، ويرغبون في الصوم، ويصومون أيام الاثنين والخميس، وثلاثة أيام من كل شهر، والأيام البيض.
جاء في رواية أن داوود عليه السلام كان يصوم يوما ويفطر يوما. عباد الله الصالحون كانوا يهتمون بالصوم اهتماما كبيرا، لأن الصوم يجعل الإنسان قويا تجاه النفس، ويجعل النفس ضعيفة مغلوبة، وهذا الإذلال للنفس من أهم فوائد الصوم. الشيطان أيضا يعجز أمام المؤمن الصائم، وهذا هو الدليل في أن الشياطين مصفدة في شهر رمضان.
وتابع فضيلة الشيخ عبد الحميد: من صفات المؤمنين “الراكعون الساجدون” إنهم يكثرون من السجدة والركوع، أي يكثرون من الصلاة. كان رسول الله صلى الله عليه وسلم والصحابة عندما وجدوا أدنى فرصة أقبلوا إلى الصلاة. “الآمرون بالمعروف والناهون عن المنكر”، المشترون للجنة يدعون غيرهم أيضا إلى الخير، ويفكرون في إصلاح المجتمع، كما أنهم أيضا يعملون بالأحكام الإلهية.
واستطرد خطيب أهل السنة قائلا: هذه صفات من يعتبر المال والنفس أمانة الله بيده، والصحابة كانوا مصاديق حقيقيين لهذه الآيات. يقول الله تعالى واصفا الصحابة في مكان آخر: “لقَد تَّابَ الله عَلَى النَّبِيِّ وَالْمُهَاجِرِينَ وَالأَنصَارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي سَاعَةِ الْعُسْرَةِ مِن بَعْدِ مَا كَادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِّنْهُمْ ثُمَّ تَابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُوفٌ رَّحِيمٌ”.
الصحابة في غزوة تبوك وعندما كان الحر شديدا ولم يكن لديهم الوسائل والإمكانات وكان فصل قطف الأثمار، حيث تحركوا للجهاد والقتال ضد أكبر قوة في ذلك العصر، وهي قوة الروم، وقطعوا مسافة 750 كيلومترا، وقاتلوا جيش الروم، وانتصروا عليهم بإذن الله تعالى.
وأبدى فضيلة الشيخ في نهاية خطبته، أسفه الشديد على ضعف الإيمان لدى المسلمين في هذا العصر، وشجّع المصلين على التضحية بالمال والنفس في سبيل الله تعالى، والإكثار من عبادة الله عز وجل.